يقولون "كل ذي عاهة جبار"، إنه جبار بقدر صعوبة الحياة ومشاقها على الأصحاء، فكيف الحال بالمعاق؟. جبار إذا تمكن من التعايش مع واقع بات يعجز الكثيرون على مسايرته، فكيف به وهو يتميز في ذات الظروف؟. هو الإصرار ما يدفعهم إلى المحاولة مرة تلو الأخرى... يدعو الناس بلغة الإشارة بعدما عجز لسانه عن النطق، تعلم ودرس وقرأ، وأحس أن لديه واجب يدفعه لدعوة الناس إلى الدين، لم يطل به التفكير كثيرا استعان بمن يعينه على ترجمه لغة الصم والبكم إلى لغة الحديث بلسان الناطقين، وسط استغراب الناس واستهجان البعض استطاع أن ينجح في دعوته فبياناته تلاقي إقبالا كبيرا.
حياة لجوء وتشرد محمد أحمد أبو موسى رجل في الخامسة والخمسين، ولد في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، واحد كغيره من الذين نشأوا حياة اللاجئين المهجرين عن أرضهم.
غادر أهله قريتهم الأصلية "القبيبة" إبان النكبة في العام 1948. كان طفلا عاديا حتى أصابته حمى شديدة فقد على إثرها قدرته على السمع والنطق، لعدم تلقيه العلاج اللازم بسبب ضيق اليد والاهمال ونقص المتابعة، لتتحول حياته كلها، ويصبح له ظروفا خاصة كمعاق.
ويبقى الفقر يدق حياته بمطرقة أكثر مرارة وقسوة، فقد اضطر للتنقل بالعيش بين والده المقيم في مدينة رفح المصرية، ووالدته المقيمة في الشطر الفلسطيني من مدينة رفح، وهذا اضطره إلى ترك المدرسة في سن مبكرة ليتوجه للعمل في السوق، يجمع ما يفيض من التجار من الخضار ويعيد بيعه بعد فرزه وتنظيفه بحثا عن لقمة العيش.
وعندما أصبح شابا فتيا انتقل للعمل داخل الخط الأخضر حيث كانت بدايته كعامل بناء، إلا انه ومع تقدم السن به وكحال الكثيرين بفعل الحصار فقد عمله واضطر للاعتماد على معونات إنسانية من الهيئات والمؤسسات الداعمة للاجئين الفلسطينيين.
للشيخ أبو موسى أربعة أبناء وخمس بنات جميعهم تعصف بهم ذات الظروف التي يعاني منها كل سكان قطاع غزة، غير أنهم فخورون بوالدهم الذي انضم إلى جماعة "التبليغ والدعوة" أواخر العام 1997، وانخرط في الاعتكاف لفترات طويلة في مساجد مختلفة في أنحاء متفرقة من قطاع غزة، يتحدثون عن والدهم الذي استطاع رغم إعاقته أن يجد مكانا له في قلوب الناس يدعوهم فيستجيبون وينتظرون بيانه من فترة إلى أخرى.
داعية أبكم يستدين لعدم امتلاكه المال ليخرج مع أقرانه من المشايخ للاعتكاف والدعوة إلى الله، وليكتسب خبرات ويتعلم الكثير عن دينه من خلال الدروس والندوات الدينية، وسمحت له هذه التجربة فرصة التأمل والمعرفة والقراءة بشكل معمق، ويصف الشيخ أبو موسى تجربته الدعوية بأنه الأهم في حياته، ورغم انه ترك معهد تعليم الإشارات للصم والبكم بسبب عدم قدرته على تحمل التكاليف المادية وقتها، إلا انه تابع بنفسه واستفاد قراءة وكتابة بدرجة كبيرة.
يحدثنا الشيخ أبو موسى ومرافقه الشاب محمد عقل الذي تولى ترجمة الحديث لـلموقع ويتولى ترجمة الدروس الدينية من لغة الإشارة للغة الناطقة، لقد افقدني الله نعمة النطق إلا انه أبقى لدي على باقي الحواس وهذه نعمة كبيرة اشكر الله عليها، ومن حقه علي الشكر وبعد بحث وجدت أن هناك فرصة لأنقل ما تعلمته إلى الناس.
كان مطلوبا من كل مشايخ التبليغ والدعوة إلقاء درس وعندما جاء دوري احتار الجميع كيف سألقيه إلا أن محمد صديقي أعانني كثيرا وهو الذي لديه خلفية عن لغة الإشارة فتولى الترجمة كما يفعل الآن واستمر معي ملازما ومرافقا وسهل علي الكثير من الأمور الدعوية.
أعجب الجميع من طرحي للمادة الدعوية واقترحوا علي الاستمرار، ومن خلال المصلى القريب من منزلي كانت أول بيان لي بعد صلاة العصر، وكان الدرس الأول لي أمام العامة، استغرب الناس في البداية فهم يعرفون أني لا انطق فكيف بي القي عليهم دروسا ومواعظ دينية إلا أن الفضول دفعهم للجلوس لمعرفة ما سأقوله، وبتوفيق من الله نلت إعجاب الجميع واستحسانهم، ومع استرسالي بالحديث بدا لهم الأمر أكثر جدية وتابعوا حتى النهاية.
وحول المواقف التي يتعرض لها، قال أبو موسى: لا يخلو الأمر من بعض المستهترين والمستهزئين، إلا أن هذا لا يعيقني فقد تعودت أن أي طريق لا بد له من صعوبات وما أعانيه خاصة ما هو إلا شيء يسير أتلقى عليه الأجر، فانا أتابع بياني ويزيدني إصرارا أن ما افعله يستحق المغامرة.
الشيخ أبو موسى الذي يحرص على متابعة نشرات الأخبار بلغة الإشارة على شاشات الفضائيات العربية يعتبر أن التليفزيون صديقه الحميم، فهو مهتم بمتابعة القنوات الدينية ويستفيد منها إذا وجد من يساعده على ترجمة الكلام إلى إشارة.
ويقول: لقد تعلمت من أساتذتي ومشايخي سبل إلقاء البيان وخاصة أني لا أتحدث للناس مباشرة، وأهم ما تعلمته هو أن أكون مباشرا ومختصرا، ويبتسم الشيخ أبو موسى ويضيف: يساعدني محمد عقل كثيرا في التغلب على استهجان الناس ومعالجة سخرية واستهزاء البعض.
مترجم داعية وهنا يتولى الحديث الشاب محمد عقل فيقول مبتسما: أنا المرافق الخاص والمترجم الأول للشيخ محمد فقد تعلم خمسة من زملائنا مبادئ لغة الإشارة لمساعدة الشيخ محمد في حالة غيابي، فهم يتهافتون على مساعدته.
وحول تفاصيل العمل مع الشيخ محمد كمترجم داعية، يقول محمد عقل: إن الشيخ يقول الجملة كاملة ومن ثم أتولى ترجمتها للناس كما يقولها بكل ما تحمله من عبارات وطريقة وأسلوب، لما يتمتع به الشيخ من روح مرحة فهو محبوب لدى الجميع ودروسه أعطت طابعا خاصة نتميز به أينما ذهبنا فهناك إقبال كبير، فالشيخ لديه قدره كبيرة على الحفظ بدت واضحة من خلال تعلمه السريع واستيعابه.
وربما يعود ذلك إلى قدرته الفائقة على التركيز لأنه لا يعاني مثلنا من المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تشوش التفكير وهذا يساعده على التأمل أكثر، بالإضافة إلى انه ورغم سنه تجده الأكثر تعاونا وحضورا بين جمهور الشباب، محبا للأطفال ويهوى مداعبتهم وهم أيضا يقبلون عليه بشكل كبير.
الشيخ أبو موسى يعاني من مرض "النقرس" إلا أن المرض والإعاقة لم تمنعه من اتساع دائرة أحلامه فيعود للحديث عنها مشيرا بيديه: أتمنى أن استمر في مجال الدعوة وان يستفيد اكبر عدد ممكن من الناس من دروسي، والسفر للدعوة في بلاد الله الواسعة في الهند وبنغلادش والكثير من الدول، إلا أن حلمي الكبير هو أن ازور بيت الله الحرام للحج والعمرة، فالحالة المادية تمنعني وأتمنى أن أجد من يعينني على تحقيق حلمي الكبير بأداء فريضة الحج.