د. إسماعيل ناصر الصمادي
إن خير مثال يمكن أن يضرب عن الخطاب الأسطوري ذي البنية النصية القصصية، والذي يفترض نفسه خطاباً تاريخياً ذا بنية علمية، هو «العهد القديم» والخطاب الأسطوري يعتبر أن التاريخ هو تصريف الإرادة الإلهية على الأرض دون الأخذ بأسبابه الموضوعية المجتمعية الاقتصادية، وقد كان هذا التصور يشمل كل أنواع المعتقدات، والخطابات في العهود القديمة، وقد تغير هذا التصور في سياق الصيرورة الإنسانية، وأصبح الإنسان ينظر إلى التاريخ على أنه نتاج، لا قوى غيبية إلهية، بل محصلة لجملة من المعطيات الجدلية للعلاقات بين جماعات لها انتماءاتها الأثنية، أو الاقتصادية، أو السياسية، في إطار جغرافي معين، وهذا الجدل يتمسرح على أرض الواقع بين محورين محددين بزمان محدد، ومكان محدد
وفي بحث هام من ابتكار الماضي اليهودي الوهمي الذي دخل مع الحاضر في صراع عالمي يقدم الباحث فراس سواح كتابه (تاريخ أورشليم) على أنه تتمة لكتابه السابق (آرام دمشق والسامرة)، وقد أعطى بطاقة تعريفية للكتاب جاءت على الدفة الخلفية للكتاب (تتخذ معالجاتي لتاريخ فلسطين القديمة، وفي هذا الكتاب، من أورشليم نقطة انطلاق ونهاية، ومحوراً يدور حوله البحث بكامله، وذلك في محاولة لنزع غلالات الخرافة عن هذه المدينة، والكشف عن تاريخنا الحقيقي، وعن تاريخ فلسطين المدفون تحت ركام من الحكايا التوراتية، وركام آخر من البحث التاريخي المصاب بعمى الألوان التوراتي، سوف يغطي البحث فترة تزيد على ألفي سنة من تاريخ أورشليم، في السياق العام لتاريخ فلسطين، كما يغطي أيضاً ثلاثة آلاف عام من تاريخ فلسطين الكبرى، في السياق العام لتاريخ سوريا والشرق القديم).
ويضيف، أنه سيحاول من خلاله أن يجيب عن خمسة أسئلة:
- من هم اليهود، ومتى تشكلت الأثنية اليهودية في فلسطين؟
- متى نشأ الدين اليهودي، وأين، وكيف؟
- هل كان لليهود كيان سياسي في فلسطين؟ وما هو المدى الزمني والجغرافي لهذا الكيان في حال وجوده؟
- هل دانت فلسطين باليهودية في يوم من الأيام؟
- ما العلاقة بين التاريخ اليهودي وتاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا، وتاريخ فلسطين الكبرى على وجه العموم؟
ويبدأ السواح بحثه بنبذة عن حملات التنقيب والبحث الأركولوجي في فلسطين ككل، وفي مدينة القدس «أورشليم» على وجه الخصوص، مع التركيز على النتائج التي توصلت إليها الباحثة المعتدلة كاثلين كينون، والتي أكدت من خلال دراساتها، وبحثها الأركولوجي، استحالة الوجود التاريخي لهيكل سليمان المزعوم، وأن البحث عن الهيكل المزعوم هو لهاث وراء السراب.
ولم تبدأ الأعمال التوسعية في مدينة أورشليم إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، ويعتقد الديمغرافيون أن عدد سكانها في القرن العاشر قبل الميلاد لم يكن يتجاوز ألفي نسمة، بل إن المؤرخ تومبسون يعتقد بأن كل من كان في مرتفعات يهوذا (الواقعة بين القدس وحبرون - الخليل - في الجنوب) لم يكن أكثر من ألفي نسمة.
وكانت منطقة أورشليم ككل المناطق المحيطة بها تعاني من حالة بائسة، وكانت من المدن الصغيرة نسبة إلى مدينة حاصور في الجليل، ومدينة مجدو في سهل يزرعيل (مرج بن عامر)، كما إنها كانت ذات طابع ريفي متواضع.
كما أن الباحثين الديموغرافيين يقدرون عدد سكان فلسطين في تلك الفترة - القرن العاشر قبل الميلاد - بمائة ألف نسمة وهذا العدد أقل من عدد العمال الذين شاركوا في بناء الهيكل المقدس، والقصور والمباني الإدارية كما جاء في التوراة.
أما بالنسبة للقصة التي وردت في التوراة والتي تقول: إن الملكة السبئية بلقيس كانت قد زارت الملك سليمان بعد أن سمعت بعظمته، فقد أورد فراس سواح أن مملكة سبأ لم يكن لها وجود قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وهذا إضافة إلى أن تفنيد المقولة التوراتية، يؤكد أن تحرير النص قد تم بعد القرن الرابع قبل الميلاد لأن المحرر التوراتي كان على دراية بوجود مملكة سبأ التاريخية التي قامت في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية.
أما المقولة التوراتية حول أن الملك سليمان كان قد تزوج ابنة فرعون مصر من بين الألف زوجة التي كانت له (الذي لم يعط المحرر التوراتي لا اسم الفرعون - والذي كان قد قدم مهراً لابنته بدل أن يقدم سليمان مهراً للفرعون وكان هذا المهر مدينة لخيش القريبة من أورشليم - ولا اسم الأميرة الفرعونية التي تزوجها الملك سليمان، وأن المحرر التوراتي لم يكن على علم بالتقاليد الفرعونية التي كانت تمنع زواج الأميرات المصريات من الملوك، وغير الملوك الأجانب وقد أوردت ذلك عدة حوادث تؤكد هذه المقولة).
أما بالنسبة للمؤرخين التوراتيين الذين حاولوا أن يثبتوا أن الملك سليمان هو شخصية تاريخية بعد أن عزلوا كل ما هو أسطوري وخرافي من القصة، فيقول فراس سواح (إن المؤرخين التوراتيين اعتقدوا أن بإمكانهم عزل المثيولوجي والخرافي من أجل الكشف عن الحقيقة في سيرة سليمان، وهم في ذلك لا يعون مسألة على غاية من الأهمية في فهم النص التوراتي، سواء في هذه السيرة أم في غيرها، وهي أن العناصر المثيولوجية والخرافية هي جزء لا يتجزأ من القصة).
وتحدث عن أزمة التاريخ التوراتي، وأزمة المدرسة المحافظة وكبار معلميها الذين بدأوا بالانقراض لحساب المعتدلين والراديكاليين، خاصة في العقد الأخير بعد البينات الأركولوجية التي دحرت المقولات التوراتية، وبذلك مقولاتهم أيضاً، ولم يبق منهم من يتمترس وراء المقولة التوراتية إلا من تمترس بالصمت الكامل، وقد دعم الكاتب والباحث التاريخي فراس سواح وجهة نظره بأقوال الباحثين العالميين وعلى اختلاف مدارسهم المحافظة والمعتدلة والراديكالية، وخاصة مقولات المحافظين الذين ضخموا مملكة داوود، يقول فون راد عن المملكة الداودية (وبفضل إنجازاتها في مجال الكتابة التاريخية التي تحققت بشكل مستقل، واتخذت شكلاً ناضجاً منذ البداية، يجب أن تعد حضارة "إسرائيل" في مستوى ما تم إنجازه في اليونان بشكل أوسع بعد عدة قرون)، وإضافة إلى استشهاده بالمقولات ذات العلاقة لتوضيح وإضاءة وجهة نظره، أرفق كتابه بمجموعة من الخرائط، والصور التي تضيء للقارئ المواقع الجغرافية، وبعض المواقع الأثرية، وبعض القطع الآثارية التي استشهد بها.
وقد قام فراس السواح بمناقشة ودحر المقولة التوراتية، ومن يتبناها من الباحثين المحافظين من خلال إثبات أن تلك المقولة لا تتقاطع أبداً، بل وتتعارض مع المعطيات الأركولوجية والستراتيغرافية، وآثار التبدلات البيئية التي ساهمت بجزء كبير في صناعة التاريخ، وخاصة موجات الجفاف (الميسيني) التي كانت قد أنهت الكثير من الحضارات العارضة التي كانت قائمة في العصور القديمة، ثم استبدلتها بحضارات جديدة، ولكن هذه التبدلات البيئية العميقة، رغم عمق التحولات التي أحدثتها، لم تستطع أن تنهي الوجود الحضاري الأصيل لأبناء المنطقة الأصليين من آراميين وكنعانيين، والذي مهما انكمش هذا الوجود الحضاري بسبب سوء الظروف البيئية والسياسية العالمية، يعود وينطلق ثانية كطائر العنقاء في سماء الحضارة الإنسانية بأسماء جديدة.
وقد استشهد الباحث السواح لدعم ما يذهب إليه، بما ترك أصحاب الحضارات القديمة من حوليات ونصوص ونقوش أثرية، خاصة منها الحوليات الآشورية، والبابلية، أما الفترات التي بخلت فيها النصوص التاريخية علينا بالمعلومات، فقد وظف السواح بدلاً عنها المحاكمة العقلية للوصول إلى مقاربة وتشخيص تلك الفترة المعتمة بقصد إضاءتها، والتمييز بين ما يمكن اعتباره خطاباً لاهوتياً أو أيديولوجياً، وما يمكن اعتباره تاريخياً في المقولة التوراتية.
وركز في حديثه على تاريخ أورشليم عاصمة مملكة يهوذا وهي موضوع البحث، وتغيراتها الجغرافية، والديمغرافية على تعاقب العصور، وعلى تعاقب الحضارات وصولاً إلى ربيع سنة 70 للميلاد عندما قام تيتوس ابن إمبراطور روما آنذاك فسبازيان بحملة على أورشليم وحاصرها إثر تمرد عسكري يهودي، وتمكن في صيف نفس السنة من دخولها، وقتل كل المتمردين وإحراق من تحصن في الهيكل المقدس الذي سواه مع التراب، والذي لم يبق من أثر له سوى قسم من سوره الغربي، وهو ما تسميه الجماعات اليهودية بحائط المبكى (حائط البراق)، والذي يزورونه في التاسع من أغسطس من كل عام ليسفحوا عليه دموع الندم.
وبهذه الضربة القاصمة أنهى الرومان بقيادة تيتوس الوجود اليهودي في أورشليم، أما من تبقى منهم في الأرياف، فقد قام إمبراطور روما هادريان سنة 135 للميلاد على أثر تمرد آخر بإنهاء وجودهم في بلاد كنعان بشكل نهائي، وقام ببناء مدينة جديدة على أنقاض مدينة أورشليم سماها (ايليا كابتولينا).
أما اليهود الذين بقوا على قيد الحياة فقد تشتتوا في أصقاع العالم، حيث امتزجوا وتمازجوا بالشعوب على اختلاف أنواعها، وخرج الكثير من اليهود من حظيرة الديانة اليهودية نحو المسيحية والإسلام، كما دخل الكثير من الجماعات إلى اليهودية أيضاً، وامتزجت الدماء والعروق وبقي شيء واحد يتحرك عبر التاريخ هو الدين اليهودي إلى أن استطاع اتباع اليهودية بقيادة الصهيونية في بداية القرن المنصرم من إعادة معتنقي اليهودية إلى فلسطين ليبنوا ضمن رؤية مستقبلية مريضة الماضي الوهمي على أرض الحاضر