قراءة في تاريخ اليهود المصريين
بقلم:
نرمين نزار
25 فبراير 2008
الاصدار: الاشتراكي
الناشر:
مركز الدراسات الاشتراكية
صدر خلال العام الماضي كتابان أكدا مجدداً أن الحديث عن تاريخ اليهود المصريين أصبح في حد ذاته مسألة شائكة يسهل فيها الإلتباس والإتهامات المتبادلة. كما ان هاذين الكتابين بالتحديد نالا ترحيبا أو نقدا موجها بالأساس للأسماء التي ارتبطت بهما في اهمال جسيم لمناقشة المضمون شديد الأهمية للكتابين. الكتاب الأول هو "شتات اليهود المصريين" لجول بنين، رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية، وهو الكتاب الذي اثار الجدل الأكبر. ومن المدهش ان الدكتور رؤوف عباس الذي قاد الهجوم على الكاتب، كان من أشد المتحمسين لترجمته، وكان من المفترض أن يكتب له المقدمة حينما كان الدكتور إيمان يحيي يترجمه للمشروع القومي للترجمة.
أما الكتاب الثاني "تاريخ يهود النيل" فتم استقابله بترقب إيجابي بسبب نسبته إلى مترجمه المناضل الراحل يوسف درويش، وليس لمحرره جاك حاسون أو الكتاب والمؤرخين المشاركين فيه. لقد احتفى اليسار المصري بكتاب يصدر عليه اسم يوسف درويش بعد عام على رحيل هذا الرمز الشيوعي الكبير غاضين البصر عن أنه هو شخصيا قد ذكر في المقدمة التي اعدها للكتاب انه لم يلق اهتماما كبيرا للكتاب حين وصله اول مرة، كما انه لن يحلل مضمون الكتاب والشهادات الواردة فيه أويستخلص أي نتائج من ذلك. إن الحالة المصاحبة لأستقبال الكتابين تعكس الى حد كبير النظرة العامة الملتبسة اتجاه أي محاولة لفحص تاريخ يهود مصر.
من هم اليهود المصريون؟
ينقسم الجيل الأخير من اليهود المصريين، اي الجيل الذي عاصر موجة الهجرة اليهودية من مصر في الخمسينيات من القرن الماضي الى فئات عديدة ولا يمكن تحديد دوافع وميول اليهود المقيمين في مصر عند منتصف القرن العشرين دون فهم الإختلافات بين تلك الفئات وأصولها. على صعيد المذهب انقسم يهود مصر بشكل أساسي الى طائفتين، هما الربانيون وهم من يتبعون تعاليم التلمود ويولونها أهمية كبيرة بالأضافة الى التوراه، والقرائون الذين لا يؤمنون بتعاليم التلمود. وبشكل عام ينظر الى القرائين على انهم أقرب اليهود الى صورة "ابن البلد" ثقافيا وفي الزي واللغة والأنماط الأجتماعية.
تاريخيا توجد روايتان لأصل وجود الطائفة القرائية في مصر وردتا في كتاب بنين نقلا عن صحيفة الكليم وهي جريدة الطائفة في مصر. تقول احدى الروايتان ان الطائفة وصلت مصر مع الفتح الأسلامي وأن عمرو ابن العاص هو من منحهم الأرض المقامة عليها مقابرهم بمنطقة البساتين. وتقول الرواية الثانية انهم أتو في عصر آنان بن دايفيد في القرن الثامن الميلادي. وأيا كانت الرواية الأصح فأن تلك الطائفة بلا شك متأصلة بشكل جعل تطورها التاريخي والأجتماعي مطابقاً لباقي المصريين، وإقتصر استخدامهم للغة العبرية على الطقوس الدينية بينما كانت مدارسهم تستخدم اللغة العربية كلغة تعليم أساسية. ومن الملفت للنظر ان جاك حاسون يقول أن أنغلاق القرائيين في تجمعاتهم الرئيسية (حارة اليهود ومصر القديمة حول معبد بني عزرا) لم يحدث بسبب اي تهديد من الطوائف المحلية الأخرى، ولكن بسبب هجرة اليهود السفارديم المتزايدة وأغلبهم من الربانيين، والذين قصروا أتصالهم مع العالم الخارجي على العلاقات "الطقوسية والتجارية التي أستطاعوا الحفاظ عليها مع زملائهم في جزيرة القرم واسطنبول". ومع أن هذا التبرير الذي يقدمه حاسون يرجع العداء أو ضعف التعاون بين الطائفتين الى وقت مبكر جدا، الا ان هناك حقيقة تاريخية هامة في هذا الصدد وهي أن النازيين لم يعتبروا قرائي أوروبا يهودا "لأنهم لا يمتلكون الصفات السيكولوجية لليهود" مما أعفاهم من المحرقة، وهي معلومة كافية لأثارة عداء كل من السفارديم والأشكنازيم اي يهود اوروبا الشرقية. على الجانب الأخر فإن الأمتيازات التي حصل عليها المهاجرون الجدد كأجانب في بلد تسيطر عليه القوى الأستعمارية دفع بعض القرائيين للتقرب من الربانيين على الأقل على مستوى العمل للأستفادة من الأمتيازات المالية والقانونية الممنوحة للأجانب.
السفارديم والأشكنازيم هي تقسيمة أخرى مهمة لتصنيف يهود مصر. السفارديم هم اليهود الذين تعود اصولهم الى إسبانيا وتركوها الى أرجاء العالم أثناء وبعد محاكم التفتيش. أما الأشكنازيم فتعود أصولهم الى شرق أوروبا وهم العمود الفقري للصهاينة الأوائل المؤسسين لدولة اسرائيل. والمفارقة ان أغلب المؤرخين يرجعون أصول الأشكينازيم الى قبائل وثنية من شرق أوروبا تحولت لليهودية في وفترة لاحقة على فترة الهيكل والتي تعتبر المرجعية التاريجية التي تتبناها الصهيونية لتبرر بها أطماعها في فلسطين تحديدا. ولم تعنى تقسيمة السفارديم والاشكينازيم الكثير للقرائين المصريين الذين توضح جميع المصادرة المتاحة ان هويتهم حتى بداية القرن العشرين كانت بالنسبة لهم كونهم يهود قرائين مصريين فقط. ويؤكد جاك حسون أنهم شعروا أن صفة سفارديم قد فرضت عليهم من قبل مهاجري إسبانيا الذين عاشوا بشكل منفصل عنهم الى حد كبير.
اليهود المصريون والصهيونية
أن هذا الشرح للأصول العرقية لليهود في مصر أساسي لفهم موقفهم من الصهيونية وتحولات هذا الموقف. ولكن يجب الأنتباه الى ان ذلك التنوع لم يعن أن كل طائفة يهودية في مصر حافظت على خصوصيتها دون تأثر بالطوائف الأخرى. فحتى اشد اليهود ارتباطا بالهوية المصرية كان يتحدث أكثر من لغة. ويقول أحمد صادق سعد وهو في الأصل أبن لعائلة من السفارديم تحمل الجنسية الأيطالية وأتت الى مصر من تركيا، في حوار له مع جول بنين "كنا نتحدث الفرنسية والأنجليزية في المدرسة والأيطالية في البيت والعربية في الشارع ونسب ونلعن بالتركية" والتحدث بالعربية في الشارع هنا ملحوظة يجب التوقف عندها اذ انها تدعم فكرة أن اليهود المصريين كانوا مندمجين بدرجة ما في المجتمع المصري في مقابل الفكرة الصهيونية التي تم الترويج لها عن حياتهم المنعزلة في مجتمع يضطهدهم ويعتبرهم أغراب كليا.
الوقائع تعكس صورة مغايرة تماما لهذا التصور العنصري. فالأنحيازات الأقتصادية والأجتماعية لشخصيات مثل يوسف سيكوريل ويوسف قطاوي، وهما من الصفوة الأجتماعية والأقتصادية في المجتمع المصري دفعتهم للأنتماء لحزب الوفد أي انهم تصرفوا وفقا لمعتقد سياسي وليس دينياً. أما ليون كاسترو الذي أدار حملة دعائية لحزب الوفد في أوروبا فهو في نفس الوقت رئيس المنظمة الصهيونية بالقاهرة.
إن تلك الصورة تعني الكثير بالنسبة لفكرة الهوية وفي نفس الوقت تناقض الصورة التي كان من مصلحة الحركة الصهيونية تكريسها بعد انشاء دولة أسرائيل. تلك الرؤية التي عرفت باسم "المفهوم البكائي الجديد للتاريخ اليهودي" أي تصوير حياة اليهود في المناطق الإسلامية على انها حالة متصلة من الإضطهاد والأغتراب في مجتمعات لا يشعرون بالأنتماء لها بأي شكل من الأشكال.
دخلت الصهيونية الى المجتمع اليهودي المصري تحت أدعاء توحيد جميع اليهود ومناصرتهم ولكن هل فعلت ذلك حقا؟ عندما ظهرت الحركة الصهيونية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر كانت نشطة بشكل أساسي وشبه كامل كحركة خيرية تمول الأنشطة الثقافية والإجتماعية المختلفة، وظلت كذلك حتى الاربعينيات. وفي تلك الحدود لم يكن الكثيرون من اليهود وغيرهم ينظرون لها على أساس انها تتعارض مع الحس الوطني المصري. بل انه طه حسين اشترك في افتتاح الجامعة العبرية في القدس والتي كانت المنظمات الصهيونية المصرية تمول انشائها.
لكن المسألة لم يكن بها أي نوع من حسن النية. فالعمل الخيري وخاصة التعليمي، وسيلة ناجحة للدخول الى حياة الناس اليومية والتأثير على أفكارهم. وفي عام 1943 وصلت الى عدة دول عربية مجموعة من مبوعثي القوة الصهيونية المختلفة لنقل النشاط والدعاية السياسية الصهيونية الي يهود هذه المناطق، بعد أن أصبح مثل هذا النشاط غير ممكن في أوروبا مع الحرب العالمية الثانية وأنتصارات النازية. وحرص هؤلاء المبعوثون على الأيحاء لليهود المصريين بأن مصير اليهود في أي مكان متشابه، مما يوحي لهم بأهمية أعطاء أولوية لهويتهم اليهودية على أي انتماء اخر لحمايتهم من مصير حتمي. وللأسف فان وصول القوى الألمانية بعد سنوات قليلة الى الأراضي المصرية قبل هزيمتهم في معركة العلمين كان عامل صدفة ساعد ربما في ترسيخ هذه الفكرة.
أن ربط الصهيونية بمقاومة الفاشية في عقل الشباب اليهودي المصري اجتذب العديدين من ذوي الميول اليسارية العامة، وهو ما استغله حزب المابام عبر حركة الرواد المتحدون التي عرفت في مصر بحركة العبري الصغير قبل عام 1948، والتي تبنت ما سمي "الصهيونية الأشتراكية" ونظرت الى الكيبوتز بأعتباره معسكر عمل اشتراكي، في تجاهل مرعب لحقيقة ان أراضي الكيبوتزات، هي أراضي صادرتها سلطات الأحتلال البريطاني من فلاحين فلسطينين كانوا يزرعون تلك الأرضي بالمشاع، وهي الفكرة الأكثر ملائمة مع الأشتراكية. ولم ينخدع جميع اليهود الاشتراكيين بالدعاية التي تصور الفكر الصهيوني الأستيطاني على أنه نوع من انواع الاشتراكية، فقام هنري كورييل وبرنارد لويس لورانس بمناظرة مع أعضاء الحركة حول الفرق بين الشيوعية والأشتراكية الصهيونية. ويبدو أن ذلك كان له أثر مؤقت وقليل الأيجابية حيث تميزت الحركة بتبنيها لمفهود الدولة ثنائية القومية لفترة قصيرة قبل ان تنضم بشكل كامل لحزب المابام.
إن زيف وازدواجية هذه الفكرة هي كأوضح ما يكون في مقطع ذكره بنين كان قد ورد في أحدى نشرات الحركة بالأسكندرية والتي كتب فيها التالي: " هل معنى ذلك انه يمكننا القول بأن استعمارنا لفلسطين قد أضر العرب ولم يكن في مصلحتهم؟ كلا. قطعيا لا. إن استعمارنا كان مبثابة البلسم للعيون المتخلفة لأبناء عمومتنا العرب، كما يمكن للمرء القول بأنهم قد استفادوا بشكل هائل منه وعن طريق استعمارنا هذا قمنا بمد ايدينا لمساعدة أبناء عمومتنا."
ان الفكر الصهيوني لم يستطيع بسهولة بشكله الأكثر وضوحا ومباشرة أن يجتذب اليهود المصريين في تلك المرحلة. فحتى الرواد المتحدون لم ينجحوا في إرسال أكثر من دفعة واحدة من الشباب المصري اليهودي الى الكيبوتزات. وكان مجمل اليهود الذين هاجروا الى اسرائيل بين أعوام 1917-1947 هو 4020 شخصاً كان اغلبهم يهود من اليمن او المغرب او يهود اشكينازيم أقاموا في مصر لفترات بسيطة. أما حركة الرواد المتحدين نفسها فلم ترسل من مصر إلى أي كيبوتز سوى مجموعة صغيرة في عام 1937 فقط حتى عودة العمل السري بعد عام 1947. وبدأ تنظيم مجموعات هجرة لأسرائيل تكونت من حوالي خمسين شخص في كل مجموعة. وكانت تلك الأرقام كانت هزيلة جدا في وقت كان يقدر فيه تعداد اليهود في مصر بحوالي 90 ألف نسمة حسب إحدى الأحصائيات غير الرسمية الواردة في مقال جوردون كرامر وألفرد مورابيا ضمن كتاب تاريخ يهود النيل.
فضيحة لافون والهجرة الجماعية
كان لابد من حدث على مستوى ما عرف بفضيحة لافون كي يبدأ بشكل جماعي كبير وملحوظ احساس اليهود المصريين بالخطر وأحتياجهم الى الهجرة الجماعية. عندما حوكم مجموعة من اليهود الشبان بتهمة التجسس لحساب أسرائيل وكانو قد قاموا بإنشاء خلية قامت بالعديد من أعمال التفجير لمكاتب بريد ودور سينما. ومن ضمن المنضمين الى تلك الخلية كان الطبيب اليهودي القرائي الدكتور موسى مرزوق الذي أدين وأعدم عام 1955 برغم توسطات العديد من الشخصيات القرائية. إن إدانة يهودي قرائي بتهمة التعاون مع إسرائيل، ثم نشوب أول حرب مباشرة بين إسرائيل ومصر في العام التالي، دشنت لمرحلة فاصلة، في حياة اليهود المصريين. فقد أصبحوا أكثر تأثراً بالدعاية الصهيونية والتي كانت تصدر عن الوكالة اليهودية في نيويورك تحديدا، حول أن وضع اليهود المصريين يقارب وضع اليهود في أوروبا النازية. وكان سلفاتور شيكوريل زعيم اليهود السفارديم في مصر قد التقى بمسئولي الوكالة اليهودية في الولايات المتحدة، وأرجع هجمات الأخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة على بعض الممتلكات العائدة لليهود الى إنشاء دولة إسرائيل، وحاول اقناعهم بحث الحكومة الأمريكية على التدخل ضد قانون تمصير الشركات الصادر مصادفة عام 1957.
وكما بدأت هجرة يهود العراق بتفجيرات دبرها عملاء إسرائيل في بغداد لإرهاب اليهود العراقيين، كان لتفجيرات مجموعة موسى مرزوق الدور الأكبر في إثارة التساؤلات حول إمكانية حمل الهويتين اليهودية والمصرية. لقد بدأت الهجرة الجماعية اليهودية من مصر في لحظة تشوش فيها وعي اليهود المصريين بهويتهم وتضاعف شك باقي شعب مصر في انتماء تلك الفئة له. في مقال نشر مؤخرا في مجلة النيويوركر عن كاتبة كتب الطهي الشهيرة كلوديا رودين أقحم الكاتب هوية كلوديا في الموضوع. فهذه السيدة اليهودية التي أصبحت أشهر من قدم الأكل الشرقي للمجتمعات الغربية يهودية مصرية من أصل سوري. وهي في مقابلاتها وكتبها تعلن أولا إنها مصرية وثانيا إنها تحن إلى حياة سعيدة عاشتها في مصر. لقد قرر كاتب المقال ان كلوديا رودين تحن إلى عالم من صنع خيالها وأن اليهود في الدول العربية، لم يحظوا بأي حياة أمنة أو سعيدة. هل هو تصميم من الكاتب على تبني رؤية صهيونية أم انه ينظر بشكل أساسي لنهايات أيام اليهود في مصر بعد ظهور إسرائيل كدولة حرضت العالم على كراهية اليهود؟