تظلّ أعجوبة تدوير هذه المناسبة الكونيّة في حياة الإنسان والأرض محلّ تأمّل واستزادة من أصل هذه الأسرار النفسيّة والروحيّة والكونيّة، من خلال البعد الجمعي الطبيعي بين سلوك الإنسان وحياة واستقرار الأرض، وما قصدتُه في الفقرة الأخيرة أن المتأمّل في تعاليم شهر رمضان، والواقف عند تشديداته في ضبط حياة الإنسان وتهذيبها في القول والعمل، والقراءة الواعية لذلك الباعث الحثيث في خطاب رمضان في ضبط الشهوة ومعالجتها، وإعلاء الحسّ الإنساني وصفاء الروح ونقاء الفكرة وسُبحات التبتّل الربّاني في شؤون الخلق والخليقة، كلّ ذلك يُعطي مؤشرًا طبيعيًّا في حال تطبيقه على الأرض التي يعيش عليها البشر، فتطمئنّ جغرافيا الإنسان الممتدة حين يتهذّب الجسد فيحترمها لعلوّ روحه.
تمامًا كما أن الرصد العالمي يُجمع على أن أسباب الانحباس الحراري الذي يهدّد الكون من فعل الإنسان بآلته التي لم تحترم الروح ولا السلامة ولا الطمأنينة، وجعلت صناعة المادة وتهميش الروح وازدراء العلو الأخلاقي في أصل فلسفة الوجود الإنساني مقابل الصناعة الماديّة للعالم، فأُصيبت الأرض والإنسان بأدواء وكوارث متجدّدة خرقت طبيعة توازن الخلائق، فهي كذلك حين يُحذّر رمضان ومدرسته الفلسفيّة الراقية والعميقة من خطورة صعود المادة المضطرب على حياة الإنسان، وينبّه بقوّة على علوّ الروح وتسامي البشر الأخلاقي الذي أجمع الفلاسفة أنه سرّ التفوّق في رحلة الحياة البشرية.
ولأن الرسالة الإسلاميّة في أصل بنائها التوجيهي المعظم لكرامة وآدمية الإنسان وتفوّق روحه ومعياره الأخلاقي قد كانت الرسالة الخاتمة لبيان السماء إلى سكان الأرض؛ فقد جاءت بهذا الرسالة العظيمة التي أسماها الحق تبارك وتعالى الصيام وجعلها في رمضان، وانظر جدليّة التوافق الكبيرة في معنى الرسالة وفلسفتها وتوقيتها حين كان رمضان هو موعد نزول البيان المقدس ورسالة الحق الخالدة إلى البشريّة وشركائهم في الخليقة، فكان القرآن منزّلاً في رمضان.
إذًا حين نربط بين هاتين الصورتين من المشهد الكوني العظيم الارتباط بشهر رمضان ورسالة الصوم في مهمتها الخاصة جدًا والأولويّة الأولى لثمرة الرسالة وهي معالجة انحراف الإنسان وإعلاء حسّه الروحي ونبضه المعرفي الفطري في تهذيب الروح وإيقاظها لمشهد الحياة ورسالة الإنسان، وبين تزامن توجيه هذه الرسالة المقدّسة الخاتمة (وهي القرآن) نُدرك العلاقة القويّة والاندماجيّة في معنى الصوم والتفكّر ودورة الروح للإنسان والخليقة لتذكية روحهم بالحقيقة وإعلاء أخلاقهم وهدايتهم بكل قوة تعبير ووسيلة ترشيد للنفس، وصولاً إلى التقدّم نحو خطاب الهداية المُقدّس والنجاة به إلى الملأ الأعلى.
وتدليلاً على حيوية هذه العلاقة وخصوصيّتها تأتي النصوص متضافرة متعاضدة لتأكيد ذات المعنى حين تؤكّد على أهمية مدارسة القرآن وفهم مقاصده وتلاوته في شهر رمضان... هدى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان....
لقد لخّص هذا الإيجاز البليغ المعجز رسالة رمضان لتحقيق الهدى والفرقان عن الخطيئة بإرشاد القرآن.. ولذا وعلى الرغم من التقصير الضخم والإيغال المتطرّف من خطاب الانحراف الإنساني تجاه رسالة الموسم ودلائل توجيهاته، إلاّ أنه يبقى وكما أشرنا في صدر المقال يحمل سرّه الخاص وتوجيهه النادر في هذا الصخب الجنوني لحياة الإنسانيّة التي تُفرد مواسم متعدّدة لتنمية الخطيئة والانحراف، ولثقافة ازدراء الروح والإنسانيّة مقابل الماديّة، أو ما هو أدهى صناعة الجسد بعد سلخ الروح لتسويقه بضاعة للسوق العالميّة المشتركة، والتي ترعاها أسس تقديس المادة وتصفية الروح.
هنا يأتي رمضان كمائدة للروح لا لإثخان ولإسراف الجسد... يأتي لكي يُذكّر دورة الكون بحياة الروح ونقائها، وهي في ذاتها سعادة للبشرية، ليس على المستوى الأممي للخليقة المهتدية فحسب، ولكن حتى على مستوى الفرد... حين تتهذّب نفسه من الشهوات المتعدّدة... وتنطلق روحه مردّدة بكل ثقة... لقد أبصرت الحقيقة.